فصل: قال الفخر:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وكان يوم هذه الحرب العظيمة عيد العنصرة، فقرب طيطوس من القدس وكلمهم ورغبهم في المسالمة ليتمكنوا من العبادة في هذا العيد، ووعدهم بالإحسان إليهم وقال: قد علمتم أن ملككم بحنيا لما حاصره بختنصر ملك بابل وخرج إليه مستأمنًا، انتفع بذلك ونفع قومه وبلده فسلموا، وأن صدقيا الملك لما لج في محاربة بختنصر ولم يسالمه كما أمرته الأنبياء، أهلك المدينة والأمة وأساء إلى نفسه وإليهم، فسبيلكم أن تعتبروا بهما وتهتدوا بأصوبهما فعلًا وأحمدهما عاقبة، فاقبلوا نصيحتي، واكتفوا بما جرى، ووعدهم أن يعفو عن جميع ما تقدم ويحسن إليهم- وأطال الكلام.
وكان يوسف بن كريون يترحم لهم ويبكي بكاء شديدًا، ثم قال لهم يوسف: إني لست أعجب من خراب هذه المدينة، لعلمي بأن مدتها قد انتهت، ولكني أتعجب منكم وأنتم تقرؤون كتاب دانيال النبي عليه السلام وتعلمون ما ذكره من بطلان القرابين وعدم الكاهن المسيح، وأنتم مع ذلك لا تنكسرون ولا تخضعون لله، ولا تستسلمون لمن قد سلطه الله عليكم.
فلم يقبل الخوارج ولا رجعوا غير أن جماعة من الكهنة والرؤساء تم لهم الخروج إلى الروم فآمنهم وأحسن إليهم، فمنع الخوارج من بقي، وضبطوا الطرق، فبكى اليهود وشكوا منع الخوارج لهم من الخروج، فأراد الخوارج قتلهم فبادر الروم ليخلصوهم فهجموا إلى القدس فقاتلوهم قتالًا شديدًا فانهزم الروم، وأدتهم الهزيمة إلى داخل القدس الأعظم قدس الأقداس، فقتلهم اليهود فيه، فاختار طيطوس من عسكره ثلاثين ألفًا وأمرهم أن يدخلوا إلى صحن القدس لمحاربتهم، وأراد هو الدخول معهم فمنعه أصحابه وقالوا: قف على موضع عال لتقوى قلوب أصحابك، ويبذلوا المجهود في القتال، ولا تخاطر بنفسك وبنا، واتفق رأيهم على بيات، فعلم بذلك اليهود فلم يناموا تلك الليلة، فلما أصبحوا افترق اليهود على أبواب صحن القدس وأقاموا على مقاتلة الروم سبعة أيام، فقتلوا منهم جماعة كثيرة وأبعدوهم عن القدس، فأمر طيطوس أصحابه بالكف عنهم ليفنيهم الجوع، وكان بقرب القدس قصر عظيم من بناء سليمان بن داود عليهما السلام، ثم زاد فيه ملوك البيت الثاني طبقة عالية من الخشب الحسن ووزروا جميع الجدر بالخشب، فطلوا جميع ما فيه من الخشب بالنفط والكبريت والزفت، ثم أخفوا فيه رجلًا منهم ليشعل النار في مواضع من ذلك الخشب إذا دخله الروم، وكان فيه باب خفي يخرج إلى موضع آخر لا يفطن له إلا من يعرفه، ثم مضوا إلى عسكر الروم ليلًا وهم في القدس فناوشوهم، فاجتمع عليهم من الروم خلق كثير فقاتلوهم ساعة، ثم انهزموا فدخلوا هذا القصر، فدخل الروم وراءهم فلم يجدوا أحدًا منهم، فصعدوا إلى الطبقة العالية، فخرج اليهودي الذي كان قد اختفى، فاختلط بهم وأطلق النار في تلك المواضع، فاضطرمت النار في جميع جوانبه فبادر الروم إلى الباب فوجدوا اليهود قد سدوه بسيوفهم فهلكوا، وكان فيهم جماعة من وجوه الروم، فخاف الروم من اليهود ولم يأمنوا أن يحتالوا عليهم بأمر آخر، فخرجوا من القدس والمدينة ورجعوا إلى معسكرهم، فأمر طيطوس بضبط الطرق والتضييق عليهم ليهلكهم الجوع فمات أكثرهم، وخرج كثر من أصحاب الخوارج إلى طيطوس فقتلهم، ثم دخلت الروم إلى بيت الله فلم يجدوا من يمانعهم، وكان طيطوس قد أكد على أصحابه في أن لا يحرقوا القدس فقال له رؤساء أصحابه: إنك إن لم تحرقه لم تتمكن من اليهود، لأنهم لا يزالون يقاتلون ما كان باقيًا، فإذا أحرق ذهب عزهم فانكسرت قلوبهم فلم يبق لهم ما يقاتلون عنه، فقال: لا تحرقوه إلا أن آمركم، وكان في طريقه باب مغشى بصفائح الفضة وهو مغلق، فأحرقه بعض الروم ليأخذوا الفضة، فلما احترق وجدوا الطريق إلى القدس الأجل، فدخلوه وحملوا أصنامهم فنصبوها فيه، فخرج قوم ممن بقي من اليهود في الليل إلى أولئك الذين في القدس فقتلوهم، فلما بلغ ذلك طيطوس جاء إلى القدس فقتل أكثر من وجد فيه من اليهود، وهرب من بقي منهم إلى جبل صهيون، فلما كان الغد أحرق الروم أبواب قدس الأقداس، وكانت مغشاة بالذهب، فلما سقطت كبروا وصرخوا صراخًا عظيمًا، فجاء طيطوس مسرعًا ليمنع من إحراقه فلم يتم له ذلك، ويقال: إنه صاح حتى انقطع صوته، فلما علم أن الأمر قد خرج عن يده دخل لينظره قبل أن يحترق، فلما رأى حسنه وبهجته تحير وتعجب وقال: حقًا إن هذا البيت الجليل ينبغي أن يكون بيت الله إله السماء ومسكن جلاله ونوره، وإنه ليحق لليهود أن يحاربوا عنه ويستقلوا عليه، ولقد أصابت الأمم وأحسنت فيما كانت تفعله من إعظام هذا البيت وإكرامه وحمل الهدايا إليه، وإنه لأعظم من هيكل رومية ومن جميع هياكل الأمم التي شاهدناها وبلغنا خبرها، وما أردت إحراقه ولكن هم فعلوا ذلك بشرهم ولجاجهم، وكان من بقي من الكهنة لما رأوا الحريق حاربوا الروم عنه، فلما علموا أنهم عاجزون عن دفعهم قالوا: ما نريد أن نبقى بعده فطرحوا أنفسهم في النار فهلكوا، ومضى عند ذلك من بقي من اليهود إلى جميع ما في المدينة من القصور الجليلة والمنازل الحسنة فأحرقوها بجميع ما فيها من الذخائر والآلات، وكان حريق القدس في اليوم العاشر من الشهر الخامس وهو آب، وذلك نظير اليوم الذي أحرق فيه الكسدانيون البيت الأول.
ولما كان في غد هذا اليوم ظهر من اليهود رجل متنبىء فقال لهم: اعلموا أن هذا القدس سيعود عن قليل مبنيًا كما كان من غير أن يبنيه الآدميون، بل بقدرة الله تعالى، فداوموا على ما أنتم عليه من محاربة الروم والامتناع من طاعتهم، فاجتمع عليه جماعة فقاتلوا، فظفر بهم الروم فقتلوهم بأسرهم، وقتلوا كثيرًا من عوام اليهود وضعفائهم ممن كانوا قد رحموه قبل ذلك، وراسل يوحانان وشمعون طيطوس يطلبان منه الأمان فقال: قد كنت طلبت إليكما ذلك قبل، فأما الآن فأنتما في قبضتي وليس لي عذر عند الله ولا عند أحد من الناس في استبقائكما.
فانحدر ليلًا إلى القدس بأصحابهما فقتلوا قائدين من الروم فأمر طيطوس بقتل من بقي في المدينة من اليهود ممن كان قدر رحمه، فلما رأى أصحاب شمعون ذلك خافوا على أنفسهم، فأرسلوا إلى طيطوس أن يؤمنهم، فقتل شمعون رؤساءهم وهرب الباقون إلى طيطوس فآمنهم وكف أصحابه عمن بقي من اليهود في المدينة؛ ثم هرب شمعون ويوحانان من جبل صهيون إلى موضع استترا فيه، فتم استيلاء طيطوس على جميع البلد وهدم سور جبل صهيون، ولما طال عليهما الاستتار واشتد بهما الجوع خرجا إلى طيطوس فقتلهما، ثم رحل متوجهًا إلى رومية ومعه السبي والغنائم، وكان كلما نزل منزلًا يقدم جماعة ممن ظفر به من الخوارج إلى السباع التي معه حتى أفناهم، وكان العازر لما رأى إفساد شمعون وقتله من لم يكن له ذنب من اليهود قد علم أن لا مخلص لهم من البلاء، فخرج عنه قبل استيلاء الروم على البلد عنها وأقام في بعض المواضع، فلما رحل طيطوس مضى إلى قرية مصيرا فعمر حصنها، فسمع به طيطوس وهو بأنطاكية فرد إليه قائدًا من قواده فحاصره، فلما عاين الهلكة دعا أصحابه إلى قتل من خلفهم من العيال والاستقتال ليموتوا أعزة، فأجابوه إلى ذلك وقاتلوا حتى قتلوا كلهم- فسبحان القوي الشديد، الفعال لما يريد.
ولما انقضى ذلك، كان كأنه قيل: أما لهذه المرة من كرة كالأولى؟ فأطمعهم بقوله سبحانه وتعالى: {عسى ربكم} أي الذي عودكم بإحسانه {أن يرحمكم} فيتوب عليكم ويكرمكم؛ ثم أفزعهم بقوله تعالى: {وإن عدتم} أي بما نعلم من دبركم إلى المعصية مرة ثالثة فما فوقها {عدنا} أي بما تعلمون لنا من العظمة، إلى عذابكم في الدنيا، وقد عادوا غير مرة بما أشار إليه الكلام، وإن كان في سياق الشرط، ليظهر الفرق بين كلام العالم وغيره، وأشار إلى ذلك قوله في التوراة عقب ما مضى: وإذا تمت عليك هذه الأقوال كلها والدعاء واللعن الذي تلوت عليك فتب في قلبك وأنت متفرق بين الشعوب التي يفرقك الله فيها، واقبل إلى ربك واسمع قوله، واعمل بجميع ما آمرك به اليوم أنت وبنوك من كل قلبك، فيرد الرب سبيك ويرحمك، ويعود فيجمعك من جميع الشعوب التي فرقك فيها، وإن كان المبددون يا آل إسرائيل في أقطار الأرض يجمعك الله ربك من هناك ويقربك من ثم ويردك إلى الأرض التي ورثها أبوكم وترثون، وينعم عليكم وتكثرون أفضل من آبائكم، ويختن الله الرب قلوبكم وقلوب نسلكم إلى الأبد، وتتقون الله ربكم من كل قلوبكم وأنفسكم لما يريحكم وينعمكم وينزل الله كل هذا اللعن بأعدائكم وشنأتكم الذي آذوكم.
{وجعلنا} أي بعد ذلك بعظمتنا {جهنم} التي تلقى داخلها بالتهجم والكراهة {للكافرين} وهذا الوصف الظاهر موضع ضمير لبيان تعليق الحكم به على سبيل الرسوخ سواء في ذلك هم وغيرهم، وفيه إشارة إلى أنهم يعودون إلى الإفساد، وإلى أن منهم من يؤمن ومنهم من يكفر {حصيرًا} أي محبسًا يحصرهم غاية الحصر، وعن الحسن أن الحصير هو الذي يفرش ويبسط، فالمعنى أنه يجعلها مهادهم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
اعلم أنه تعالى حكى عنهم أنهم لما عصوا سلط عليهم أقوامًا قصدوهم بالقتل والنهب والسبي، ولما تابوا أزال عنهم تلك المحنة وأعاد عليهم الدولة، فعند ذلك ظهر أنهم إن أطاعوا فقد أحسنوا إلى أنفسهم، وإن أصروا على المعصية فقد أساؤا إلى أنفسهم، وقد تقرر في العقول أن الإحسان إلى النفس حسن مطلوب، وأن الإساءة إليها قبيحة، فلهذا المعنى قال تعالى: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا}.
المسألة الثانية:
قال الواحدي: لابد ههنا من إضمار، والتقدير: وقلنا إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم، والمعنى: إن أحسنتم بفعل الطاعات فقد أحسنتم إلى أنفسكم من حيث إن ببركة تلك الطاعات يفتح الله عليكم أبواب الخيرات والبركات، وإن أسأتم بفعل المحرمات أسأتم إلى أنفسكم من حيث إن بشؤم تلك المعاصي يفتح الله عليكم أبواب العقوبات.
المسألة الثالثة:
قال النحويون: إنما قال: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} للتقابل والمعنى: فإليها أو فعليها مع أن حروف الإضافة يقوم بعضها مقام بعض، كقوله تعالى: {يَوْمَئِذٍ تُحَدّثُ أَخْبَارَهَا * بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا} [الزلزلة: 4، 5] أي إليها.
المسألة الرابعة:
قال أهل الإشارات هذه الآية تدل على أن رحمة الله تعالى غالبة على غضبه بدليل أنه لما حكى عنهم الإحسان أعاده مرتين فقال: {إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ} ولما حكى عنهم الإساءة اقتصر على ذكرها مرة واحدة فقال: {وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا} ولولا أن جانب الرحمة غالب وإلا لما كان كذلك.
ثم قال تعالى: {فَإِذَا جَاء وَعْدُ الأخرة}.
وفيه مسائل:
المسألة الأولى:
قال المفسرون: معناه وعد المرة الأخيرة، وهذه المرة الأخيرة هي إقدامهم على قتل زكريا ويحيى عليهما الصلاة والسلام.
قال الواحدي: فبعث الله تعالى عليهم بختنصر البابلي المجوسي أبغض خلقه إليه فسبى بني إسرائيل وقتل وخرب بيت المقدس أقول: التواريخ تشهد بأن بختنصر كان قبل وقت عيسى عليه الصلاة والسلام ويحيى وزكريا عليهما الصلاة والسلام بسنين متطاولة، ومعلوم أن الملك الذي انتقم من اليهود بسبب هؤلاء ملك من الروم يقال له: قسطنطين الملك- والله أعلم بأحوالهم- ولا يتعلق غرض من أغراض تفسير القرآن بمعرفة أعيان هؤلاء الأقوام.
المسألة الثانية:
جواب قوله: {فَإِذَا جَاء} محذوف تقديره: فإذا جاء وعد الآخرة بعثناهم ليسوؤا وجوهكم وإنما حسن هذا الحذف لدلالة ما تقدم عليه من قوله: {بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا} [الإسراء: 5] ثم قال: {ليسوؤا وُجُوهَكُمْ}.
وفيه مسألتان:
المسألة الأولى:
يقال: ساءه يسوءه أي أحزنه، وإنما عزا الإساءة إلى الوجوه، لأن آثار الأعراض النفسانية الحاصلة في القلب إنما تظهر على الوجه، فإن حصل الفرح في القلب ظهرت النضرة والإشراق والإسفار في الوجه.
وإن حصل الحزن والخوف في القلب ظهر الكلوح والغبرة والسواد في الوجه، فلهذا السبب عزيت الإساءة إلى الوجوه في هذه الآية، ونظير هذا المعنى كثير في القرآن.
المسألة الثانية:
قرأ العامة: ليسوؤا على صيغة المغايبة، قال الواحدي: وهي موافقة للمعنى وللفظ. أما المعنى فهو أن المبعوثين هم الذين يسوؤنهم في الحقيقة، لأنهم هم الذين يقتلون ويأسرون وأما اللفظ فلأنه يوافق قوله: {وَلِيَدْخُلُواْ المسجد} وقرأ ابن عامر وأبو بكر عن عاصم وحمزة: {ليسوء} على إسناد الفعل إلى الواحد، وذلك الواحد يحتمل أن يكون أحد أشياء ثلاثة: إما اسم الله سبحانه لأن الذي تقدم هو قوله: {ثم رددنا} {وأمددناكم} [الإسراء: 6]، وكل ذلك ضمير عائد إلى الله تعالى، وإما أن يكون ذلك الواحد هو البعث ودل عليه قوله: {بَعَثْنَا} والفعل المتقدم يدل على المصدر كقوله تعالى: {وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَا ءاتاهم الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَّهُمْ} [آل عمران: 180] وقال الزجاج: ليسوء الوعد وجوهكم، وقرأ الكسائي بالنون وهذا على إسناد الفعل إلى الله تعالى كقوله: {بعثنا عليكم} {أمددناكم}.